راشد المبارك المفكر والموسوعي الأديب ( الدكتور مرزوق بن تنباك)

عندما يفقد المرء صديقا أو زميلا أو عزيزا فلا شك أنه يشعر بالحزن وألم الفراق للعلاقة التي تربطه بذلك الإنسان، لكن عندما يموت رجل يفقد الناس بموته فضائل جمة وقيما كثيرة وأخلاقا لا تجدها إلا عند القليل من الرجال وعلما لا يحده التخصص، فأنت لا تحزن لعلاقة خاصة لكنك تحزن لما فقد من هذه القيم كلها، ومن هذه المعاني التي تفقد في موت رجل يحملها ويذكرك بها، ولا تجدها إلا في القليل من الرجال غيره الذين لا يجود الزمان بمثلهم إلا بالنادر والقليل.
في هذا الأسبوع مضى الدكتور العالم الموسوعي راشد بن عبدالعزيز المبارك إلى رحمة الله، ولم يكن الحزن على الدكتور راشد المبارك حزنا على موت صديق وزميل، ولكنه حزن على ما يحمل بين جنبيه من فضائل قلما تجدها كلها مجتمعة في رجل واحد في هذا الوقت.
في العلم لا أعرف رجلا ألم بكل الفنون في الحاضر وفي علوم الأولين من علم الطبيعي، الذي تخصص به (الفيزياء) وغيرها من العلوم، مثل الدكتور راشد فهو موسوعة متحركة في علمه الذي تخصص فيه، وفي العلوم الإنسانية كلها وفي كل فنونها شعرا ونثرا وتاريخا وفقها وحديثا وتفسيرا، وقل ما شئت من حفظ لمدونات الشعر ومطولاته مثل ما يحمل راشد في ذاكرته من هذه العلوم، مع بديهة حاضرة لا تغيب عن أي مناسبة يحتاج فيها إلى الاستشهاد بقول أو رأي أو مثل أو بيت، ولا يتحدث القوم في موضوع من هذه الموضوعات على تشعبها وكثرة مضامينها واختلاط دلالاتها إلا وتجد الدكتور راشد يفاجئ الجميع بالحديث المفصل عن كل ما يدور الحديث حوله، بعلم الأولين واستقصائهم ونقد المعاصرين واستشكالهم، يحفظ المطولات من القصائد في كل المواضيع، ويحفظ النصوص ولكنه لا يستسلم لها إلا بدليل قاطع وبرهان مبين.
شؤون المجتمعفي شؤون مجتمعه وقضاياه، لا يحس أحد بهموم المجتمع المعاصرة كما يشعر راشد ويحس ليس مجتمعه الصغير المملكة العربية السعودية، بل المجتمع العربي كله، والمجتمع المسلم بعمومه، هذه القضايا هي شغله الشاغل وهمه الكبير، ولم يترك ذلك شعورا وجدانيا، فقط لكنه حاول بكل جهد أن يسهم بقدر ما يستطيع مع رجال السياسة ورجال الفكر والدين وأهل الرأي وقيادات المجتمع، وكانت صلاته في ولاة الأمر بالمملكة وشيوخ الخليج وحكامه جيدة وشفاعته مقبولة عندهم، فجعل ذلك كله لصالح قضايا المجتمع العامة، وجند نفسه لخدمة الناس أصحاب الحاجات، وما أكثر من يحتاج إلى عون راشد المبارك ومساعدته في قضاء دين أو إطلاق سجين أو نصر لمظلوم أو ردع لظالم، ولا يهزه وجدانيا إلا عندما يطلب منه عون لمثل هذه القضايا لعامة الناس، الذين لا يستطيعون قضاء حاجاتهم إلا بشفاعته وجهوده، فيبذل كل ما يستطيع لمساعدتهم بنفس راضية، وإذا استطاع أن يسهم في حل مشكلة واجهت ضعيفا أو محتاجا أو عاجزا، شعر بالسعادة والرضا، لأنه كان سببا في تفريج كربة عن إنسان لا يستطيع عمل شيء إلا بشفاعته.
جهوده المعرفيةفي الجهود المعرفية أسس في منزله منذ 35 عاما ندوة الأحد، حيث تقام مساء كل أحد، يقدم فيها أحد العلماء محاضرة عن موضوع من العلوم التي تشغل الناس في كل أنواع المعرفة العلمية والثقافيـة والسياسية، ولا يحل في الرياض عالم أو أديب أو شاعر أو فيلسوف إلا ودعي إليهـا وحاضر فيها، وهي معلم من معـالم الريـاض ومدرسـة مارست كل أنواع التثقيف في كل شؤون المعارف والموضوعات التي تشغل بال الناس من الاقتصاد والصحة والأمن وشؤون الحياة اليومية التي تواجه الناس وتهمهم وتشغل الكثير من آرائهم عالجهـا رواد هذه الندوة وطرحوا الحلول التي يرونها، واستمع إليهم عدد كبير من الرواد الذين تغص بهم صالات المنزل الكبير في مساء كل أحد يكون موسم الكلمة وشفافية العرض هما هدف ندوة الأحد وهدف روادها والمحاضرين فيها.
في الشعر والإبداع مارس الدكتور راشد المبارك حقه في التأليف، فألف في العلوم الطبيعية وفي العلوم الإنسانية وناقش قضايا المجتمع وهمومه بكتب كثيرة نالت حقها من الانتشار والذيوع بين القراء، وفاز بعضها بجوائز علمية وثقافية مشهورة، كما مارس النقد وعبر عن ذائقة نقدية متمكنة من جمال الذوق وحسن التدبر للشعر، وتناول كبار الشعراء من المتنبي على علو قدره إلى نزار قباني وسعة انتشاره، وكان في كل ذلك له رأي يحترمه أهل الاختصاص.
ولم ينس نصيبه من الإبداع في الشعر وله أكثر من ديوان شعر رائع، كان الفضل في إخراجها لأصدقائه الذين عرفوا رصانة شعره وأصالته، وأجبروه على نشر بعضه، رغم امتناعه في أول الأمر بحجة أن شعره ومضات خاصة لا يريدها أن تقرأ للناس.
ذهب الدكتور راشد إلى لقاء ربه، ولكنه ترك وراءه ما سيبقى بعده ويحيي ذكره من قيم المروءة وكرم النفس وسماحة المعشر، رحمه الله وغفر له وأحسن عاقبته في بنيه من بعده.