آفة النظام ( الدكتور مرزوق بن تنباك)
لكل شيء آفة تصيبه ومرض يقتله، وآفة النظام أو القانون هي ثغرة الاستثناء فيه، ذلك أن في مجتمعات العالم الثالث معضلات كثيرة، منها ما هو موروث من ثقافتهم القديمة المترسبة في تقاليدهم وأعرافهم الاجتماعية التي ورثوها عن آبائهم وعن أسلافهم ولا يريدون التحول عنها ولا العمل على تطويرها والاستفادة من الصالح منها، ومنها ما هو حادث وجديد في تعاملهم المعاصر، فرضت هذا الجديد الحياة، وفرضته العولمة عليهم، وفرضه العالم المتقدم والحضاري الذي يرون أنهم لا يستطيعون الاستغناء عما جاء به من أنظمة وقوانين، فأخذوا به على غير علم بقوانينه ومتطلباته والتزامات العمل وما يوجبه من قيم أخلاقية وتقاليد معرفية راسخة في وجدان تلك الشعوب، ومحمية بقوة القضاء وحرية الإرادة الشعبية.
ولا أريد أن ذكر تعامل العالم الثالث مع قيم الديمقراطية وقوانينها وثوابت العمل بها والقبول بخيارتها، وكيف تعاملوا وتصرفوا بما يريدونه منها، وليس ما تقتضيه ثوابتها وفلسفتها الاجتماعية والأخلاقية، أخذوا ما يريدونه وليس مقتضاها المعرفي. ومثل الديمقراطية كثير غيرها، فيما أخذ العالم الثالث من الغرب كالعدل الذي يتصف به تعاملهم، والمساواة التي يوجبونها بينهم، وحقوق المواطنة المقدسة عندهم، حيث لا يكون هناك فرق بين أبيض وأسود ولا قوي ولا ضعيف، واحترام الإنسان بوصفه إنسانا بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه ومكانته في المجتمع الذي يعيش فيه، وكانت حقوقه محفوظة بالقانون الذي لا يحابي أحدا على أحد، فقد أخذ العالم الثالث كل تلك القيم وكيفها وغير فيها وعطل ما لا يريده منها مع ما يخدم مصالح الطبقة النافذة في المجتمع. هذا التكييف والتغيير شوه الوظيفة الأساسية التي قامت عليها هذه القيم في أصل وضعها وفي بيئتها الأصلية. وإذا كان كل نظام لا بد له من لوائح وتفسيرات واستثناءات يمارسها القائمون على تنفيذه ويحتاجها بالضرورة عند التطبيق، وكل تلك اللوائح والتفسيرات والاستثناءات تكون منضبطة بضوابط القانون نفسه ولا تخرج عن روح القصد الذي أنشيء بموجبه القانون.
أما في العالم الثالث فإن القانون ولوائحه وتفسيراته لا تنسجم مع الروح الديمقراطية التي صنع القانون لمراعاتها والحفاظ عليها، ولكنها تكون في كل الأحوال ثغرة واسعة يدخل منها التعطيل للقانون ولوائحه ومتطلباته. وأخطر تلك الثغرات وأوسعها خرقا لوظيفة القانون وروحه هي الاستثناءات التي تعطى للتنفيذيين، لأنه لا بد أن يواجه منفذ القانون عند تطبيقه حالات لا يكون النص فيها واضحا، أو أن الحالة نفسها تضطر المنفذ للقانون أن يتجاوز نصوصه لسبب يقدره وتحتمه المصلحة العامة حين يحتاج إلى التطبيق العملي، وهو أمر يوجد في كل الأحوال وفي كل قوانين العالم، وهذا الأمر هو ضرورة أن يكون لدى التنفيذيين فسحة معقولة تمكنهم باعتبارات خاصة أن يتجاوزوا نص اللائحة لصالح أناس وقضايا يقدرون ضرورة الخروج بعلاجها عن النص وتكون قليلة لا تخل بالعدالة التي يحققها المبدأ القانوني الثابت.
أما في العالم الثالث فإن هذه الثغرة الضيقة التي نسميها الاستثناء تصبح هي القاعدة العريضة التي يجد فيها عتاة البيروقراطيين سبيلهم إلى خرق الأنظمة والتلاعب بنصوص القانون، ويتسع الاستثناء وتتسع معه دائرة المحسوبية والمصلحة الخاصة والمجاملة والإرضاء، وكل ذلك يدخل من مدخل ضيق هو ضرورة الاستثناء التي أعطيت لمراعاة أحوال خاصة فتحولت إلى مراعاة خواطر عزيزة على المسؤول وترضية أقرباء وزملاء له.
وفي هذه الحال يفقد القانون أو النظام وظيفته وتضيع هيبته وصرامة نصوصه، ومعه تضيع هيبة المسؤول الذي فتح باب الاستثناء على نفسه وقلما يستطيع إغلاقه دون تضحيات كبيرة قد يكون هو أول هؤلاء الضحايا عندما يسيء استعمال الاستثناء لغير ما جعل له وما سن لأجله.
|