نبش في الذاكرة ( الدكتور مرزوق بن تنباك)

نبش في الذاكرة


28 ربيع الأول 1436 - 20 يناير 2015

نبش حبيبنا الدكتور فهد اليحيا في وسمه الذي اختاره لقضية شهادة الدكتور سعيد السريحي، التي كانت يوما ما هي شغل الناس، حتى مر عليها النسيان وطواها الزمن، وأصبحت في خبر كان، لكن الدكتور فهد، وهو طبيب نفسي، يعرف مداخل النفوس، وجذوة الظلم الكامنة في أعماق المظلوم، فأعادها جذعة كما يقول أجداده العرب بتغريدة (أعيدوا الدكتوراه للسريحي). ولم يلبث هذا الوسم أن طار به الطائر الأزرق في كل اتجاه، وكان هو المادة الرائجة في الأيام الماضية، ولم يلبث أن حط به على صفحات الصحف وتناولته أقلام الكتاب، وكل أدلى بدلوه ولم تعد القضية حقا لشخص الدكتور السريحي، ولكنها أصبحت رأيا عاما واشترك بها الشيوخ الذين يتذكرون جيدا أحداثها الأولى، والشباب الذين ولدوا وعاشوا طورا من حياتهم لم يسمعوا بما حدث وكان.
ومن هؤلاء الشباب زميلنا المبدع على صفحات مكة الأستاذ فهيد العديم، الذي كان عنوان مقاله يوم الأحد الماضي 18/1/2015م (دكتوراه السريحي، وصمت الرفاق)، هذا المقال مختلف عن كل ما كتب وقيل، وهو اختلاف جميل ولفتة نابهة حاولت أن تتجاوز طرفي القضية إلى محيطها الذي عاشت فيه ووجدت في أحضانه وتلقفتها ألسنة الناس، ولا سيما المثقفين الذين يهمهم الأمر في كلا جانبيه، يهمهم أمر الظالم وأمر المظلوم، وجه الكاتب لومه المبطن للوسط الثقافي وللرفاق وبحث عنهم لا ليجدهم ولكن ليلقي اللوم عليهم، وهو عندما يثير قضية الوسط الاجتماعي، الذي شهد أحداثها الأولى، يشير في مقاله ضمنا إلى شيء من التبكيت لرفاق السريحي وصمتهم وغيابهم غير المبرر، وتمنى وهذا هو موضوع الاعتراض (تمنيت أن يكون لمثقف واحد فقط ممن عاصروا تلك المرحلة موقف واضح، سيما وهم أكثر المنظرين عن المواقف، وهم الذين لهم الآن مواقف مشهودة في تويتر).
وأنا تمنيت من الأستاذ العديم أن يتريث قليلا في حكمه القاطع والحدي، وقد يجد واحدا أو اثنين حتى وإن كان رأيه في محله، ولو رجع لما كتبه السريحي في تغريداته لسلم من التعميم القاطع وإن كان وجود واحد من الأكاديميين لا يشكل فارقا مهما، وهم آلاف في ذلك الوقت، ولا يشكل وجود واحد من الوسط الثقافي فارقا أيضا، وقد وجد هذا وذاك على كل حال، إلا أن وجودهما هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة. نعم كان هناك من القطاع الأكاديمي الذي يهمه ما حدث واحد فقط وليس معه غيره فيما علمت، وكان هناك واحد من القطاع الصحفي وليس معه غيره فيما أعلم.
كتب الأكاديمي مقاله الوحيد الذي استطاع أن يمرره خلال عقبة النشر الكأداء، عندما رأى أن القيم العلمية والتقاليد الأكاديمية تمرغ في التراب، كانت فاجعته كبيرة لا تحتمل عندما رأى جامعة في بلده تسقط كل قيمها وتقاليدها، ويتخلى مجلسها المؤتمن على سمعتها عن وظيفته من أجل موقف ايديولوجي لا يحتكم إلى قيم علمية ولا معرفية، في مقاله لم يحاول إنقاذ الطالب الذي وقع في فخ الأذى والتعصب الأعمى، وإنما حاول أن ينقذ شرف الجامعة وقيمها الأكاديمية والعلمية، وتوجه إليها وحاكمها على أساس تلك القيم العلمية والأكاديمية في مقاله، وكسر الصمت المطبق الذي أشار إليه الكاتب. ومثله كان الكاتب من القطاع الصحفي الأستاذ محمد رضا نصر الله يخرج عن رهبة الصمت ويعلن رأيه ويرفض ما حدث بحس الإنصاف ويتجاوز ضرورات المرحلة ومخاطرها عليه ككاتب موظف في الصحافة التي انحنت لعاصفة الكثرة ورهبتها وهو خروج قد يكلفه مكانه في الصحيفة التي يعمل بها.
عندما لا تجد القضية إلا أكاديميا واحدا من آلاف الأكاديميين، ولا تجد إلا كاتبا واحدا من مئات المثقفين، فلعل ذلك يعطي أخانا فهيد العديم قيمة التفرد في ذلك الوقت، وأهمية أن تقول رأيا لا يكون معك فيه من شعب كامل إلا رجلان، ولتكون القضية أوضح قليلا فإن رفاق السريحي ومن كان معه في التوجه الثقافي الذي بسببه سحبت شهادته كانوا قد استولوا على الملاحق الأدبية في جميع الصحف عدا الندوة، ومع هذا لم يكتبوا مقالا واحدا في صفحاتهم التي يشرفون عليها يعززون موقف أخيهم، حيث يسهل تمرير ما يريدون بصفتهم يشرفون على صفحات أدبية وثقافية، ولكنهم سكتوا عن ما حدث لزميلهم ورفيق دربهم بل هم الذين أطبق الصمت عليهم فأراد كل منهم أن ينجو بنفسه، وهذا ما جعل عنوان مقال الأكاديمي في ذلك الوقت (انج سعد فقد هلك سُعَيْد). إن المواقف التي ذكرها الكاتب فهيد العديم تحاكم بزمنها وظروف حدوثها، ولا تحاكم بعد أن اتسع البطان وطاب الحديث فاليوم حال وأمس حال آخر.