![]() |
منى
يوم الحج الأكبر
فإن يوم "عيد الأضحى المبارك" من أيام الله المشهودة؛ وهو أحد أعياد المسلمين كما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يومُ عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، عيدنا أهلُ الإسلام …))[1]. ويعتبر يوم عيد الأضحى أعظم أيام العام عند الله تعالى كما جاء في حديث عبد الله بن قُرْط رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر، ثم يوم القَرِّ))[2]، ويوم القرِّ: هو اليوم الذي يلي يوم النحر؛ لأن الناس يقرُّون بمنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أفضل أيام العام هو يوم النحر، وقد قال بعضهم: يوم عرفة، والأول هو الصحيح؛ لأن فيه من الأعمال ما لا يعمل في غيره: كالوقوف بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة وحدها، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة، فإن فعل هذه فيه أفضل بالسنّة، واتفاق العلماء"[3]، ويقول ابن القيم رحمه الله: "فخير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر"[4]. وقد جاءت تسميته هذا اليوم بـ"يوم الحج الأكبر" في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}(سورة التوبة:3)، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر في الحجة التي حج فيها فقال: ((أي يوم هذا؟)) فقالوا: يوم النحر، فقال: ((هذا يوم الحج الأكبر))[5]. في هذا اليوم المشهود يتقرب العباد إلى ربهم بإراقة دماء الأضاحي والهدي وهي من أفضل القربات، وأجلِّ الطاعات، إذ قرنها الله جل جلاله بالصلاة فقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}(سورة الكوثر:2)، وقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ}(سورة الأنعام:161-162). وسمي "يوم الحج الأكبر" لاجتماع أكثر أعمال الحج فيه وهي: رمي جمرة العقبة، والنحر والذبح، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة. أعمال الحاج يوم العيد: يجب على الحاج في يوم العيد أن يقوم بخمسة أعمال من أركان الحج هي: أولاً: رمي جمرة العقبة (وهي الجمرة التي تلي مكة في منتهى منى): بسبع حصيات مكبراً مع كل حصاة، ومقدار الحصاة مثل حصى الخذف لحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم سلك الطريق التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف" رواه مسلم (2137) يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "وقت الرمي بالنسبة لجمرة العقبة يوم العيد يكون لأهل القدرة والنشاط من طلوع الشمس يوم العيد، ولغيرهم من الضعفاء ومن لا يستطيع مزاحمة الناس من الصغار والنساء يكون وقت الرمي في حقهم من آخر الليل، وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ترتقب غروب القمر ليلة العيد؛ فإذا غاب دفعت من مزدلفة إلى منى، ورمت الجمرة، أما آخره فإنه إلى غروب الشمس من يوم العيد، وإذا كان زحام، أو كان بعيداً عن الجمرات، وأحب أن يؤخره إلى الليل؛ فلا حرج عليه في ذلك، ولكنه لا يؤخره إلى طلوع الفجر من اليوم الحادي عشر"[6]. ثانياً: النحر أو الذبح:لمن كان متمتعاً أو قارناً، أما من كان مفرداً فلا هدي عليه. ووقت النحر يمتد إلى آخر أيام التشريق، ويجب أن يكون في حدود الحرم في أي مكان من منى أو مكة لما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر؛ فانحروا في رحالكم...)) رواه مسلم (2138)، ولا يجوز نحر الهدي في عرفة مثلاً، أو أي مكان من الحل، ويجوز ليلاً أو نهاراً من أيام التشريق، وليس له أثر في تحلل الحاج. ومن لا يقدر على شراء الهدي صام ثلاثة أيام في الحج، قبل يوم النحر، أو في أيام التشريق، ولا يجوز لأحد أن يصوم أيام التشريق إلا من لم يجد الهدي من الحجاج، ثم يصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله. ثالثاً: الحلق أو التقصير: والحلق أفضل لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}(سورة الفتح:27)، و لما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم ارحم المحلقين)) قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: ((اللهم ارحم المحلقين)) قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: ((والمقصرين)) رواه البخاري (1612) ومسلم (2294). والأفضل أن يبدأ المحلق من جانب الرأس الأيمن ثم الأيسر لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منىً فأتى الجمرة فرماها, ثم أتى منزله ونحر ثم قال للحلاق: ((خذ))، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر..." رواه مسلم (2298). وأما المرأة فيتعين في حقها التقصير بأن تقص من كل ضفيرة قدر أنملة قال ابن قدامة: "والمشروع للمرأة التَّقصير دون الحلق لا خلاف في ذلك"[7]، وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير))[8] قال الإمام النووي رحمه الله: "أجمع العلماء على أنه لا تؤمرُ المرأة بالحلق، بل وظيفتها التقصير من شعر رأسها؛ لأنه بدعةٌ في حقهنَّ ومُثلةٌ"[9]. رابعاً: طواف الإفاضة:وهو ركن من أركان الحجقال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}(سورة الحج:29)، وإن أخَّر الحاج طواف الإفاضة فطافه عند الخروج؛ أجزأه عن طواف الوداع؛ لكن السُّنة أن يطوفه يوم العيد ضحى، وليس في هذا الطواف اضطباع ولا رمل، وبعد الطواف يصلي ركعتين خلف المقام، فإن لم يتيسر ففي أي مكان من المسجد الحرام. خامساً: السعي بين الصفا والمروة: لمن كان متمتعاً، أو قارناً، أو مفرداً، ولم يكن قد سعى بعد طواف القدوم فيجب عليه أن يسعى هنا. التحلل الأكبر والأصغر: إذا فعل الحاج اثنين من هذه الثلاثة: (رمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة)؛ فقد حل له كل شيء إلا النساء، ويسمى التحلل الأصغر. فإن فعل ما بقي مع السعي إن لم يكن قد سعى من قبل فقد حلَّ له كل شيء حتى النساء، ويسمى التحلل الثاني أو الأكبر، وبه ينتهي الحاج من أعمال يوم العيد. ترتيب أعمال الحج يوم العيد: السنَّة أن ترتب أعمال يوم العيد على النحو التالي: 1- رمي جمرة العقبة. 2- النحر أو الذبح. 3- الحلق أو التقصير. 4- الطواف. 5- السعي. فإن أخلَّ بالترتيب فقدَّم بعضها على بعض فلا حرج؛ يقول العلامة ابن باز رحمه الله: "السنة في يوم النحر أن يرمي الجمرات، يبدأ برمي جمرة العقبة وهي التي تلي مكة، ويرميها بسبع حصيات كل حصاة على حدة يكبر مع كل حصاة، ثم ينحر هديه إن كان عنده هدي، ثم يحلق رأسه أو يقصره، والحلق أفضل، ثم يطوف ويسعى إن كان عليه سعي هذا هو الأفضل كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه "رمى، ثم نحر، ثم حلق، ثم ذهب إلى مكة فطاف عليه الصلاة والسلام "رواه البخاري (1713)، وهذا الترتيب هو الأفضل: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف والسعي إن كان عليه سعي، فإن قدَّم بعضها علىبعض فلا حرج، أو نحر قبل أن يرمي، أو أفاض قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن يذبح؛ كل هذا لا حرج فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن من قدم أو أخر قال: ((لا حرج لا حرج))"[10] الحديث رواه البخاري (83) ومسلم (1306). ومما يجب على الحاج فعله في نهاية يوم العيد: المبيت بمنى ليلة الحادي عشر؛ فإن ذلك واجب من واجبات الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، وقال: ((لتأخذوا مناسككم))، ولأنه صلى الله عليه وسلم رخَّص للسقاة والرعاة في ترك المبيت، والتعبير بالرخصة يدل على وجوب المبيت لغير عذر يقول العلامة ابن باز رحمه الله: "المبيت في منى واجب على الصحيح ليلة إحدى عشرة، وليلة اثنتي عشرة، هذا هو الذي رجحه المحققون من أهل العلم على الرجال والنساء من الحجاج، فإن لم يجدوا مكاناً سقط عنهم، ولا شيء عليهم، ومن تركه بلا عذر فعليه دم"[11]. فإذا لم يبت الحاج بمنى بدون عذر فعليه دم يقول ابن باز رحمه الله: "من ترك المبيت بمنى أيام التشريق بدون عذر فقد ترك نسكاً شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، وبدلالة ترخيصه لبعض أهل الأعذار مثل الرعاة وأهل السقاية، والرخصة لا تكون إلا مقابل العزيمة؛ ولذلك اعتبر المبيت بمنى أيام التشريق من واجبات الحج في أصح قولي أهل العلم، ومن تركه بدون عذر شرعي فعليه دم لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "من ترك نسكاً أو نسيه فليهرق دماً"[12]، ويكفيه دم واحد عن ترك المبيت أيام التشريق"[13]. وإذا لم يستطع المبيت في منى ليلة واحدة، أو ليال أيام التشريق؛ لعذر كمرض أو ما أشبه ذلك؛ فلا شيء عليه كما يقول العلامة ابن باز رحمه الله: "لا شيء عليه لقول الله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(سورة التغابن:16) سواء كان ترك المبيت لمرض، أو عدم وجود مكان، أو نحوهما من الأعذار الشرعية كالسقاة، والرعاة، ومن في حكمهما"[14]. وإذا لم يجد مكاناً يبيت فيه في منى لضيقها وزحمتها؛ فله أن يبيت خارجها كما يقول سماحة الشيخ ابن باز: "وبذلك يعلم أن من لم يجد مكاناً في منى فله أن ينزل خارجها في مزدلفة، والعزيزية، أو غيرهما.. إلا وادي محسر، فإنه لا ينبغي النزول فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مرَّ عليه أسرع في الخروج منه"[15]، وذهب العلامة ابن جبرين رحمه الله إلى أنه لا بأس بالمبيت خارج منى إذا اتصلت الخيام حيث يقول رحمه الله: "لا بأس بالنزول في مزدلفة مما يلي منى إذا اتصلت الخيام بخيام أهل منى, ولو تواصلت إلى آخر مزدلفة بشرط ألا يكون بينها فراغ يمكن السكنى فيه؛ وذلك قياساً على المسجد الحرام إذا امتلأ بالمصلين فإنهم يصلون في التوسعات، وقد تتصل الصفوف إلى الأسواق شرقاً أو غرباً، ويكون لهم حكم من صلى في المسجد, فكذلك إذا امتلأت هذه المشاعر كعرفة ومنى ومزدلفة ولم يجد الحجاج منازل داخل حدود هذه المشاعر، فإنهم يضطرون إلى أن يسكنوا في أقرب مكان يجدونه متصلاً بهذه المشاعر، ولو كان بعيداً إذا لم يجدوا أقرب منه، فهم في ذلك معذورون؛ لأنهم متصلون بالحجاج الذين هم في داخل الحدود"[16]. وضابط المبيت بمنى أيام التشريق هو بقاءه في منى أكثر الليل كما يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "إذا بقي في منى أكثر الليل فقد أدى الواجب سواءً من أول الليل أو من آخره، فمثلاً: لو بقي في منى حتى انتصف الليل فله أن يغادر، وإذا أراد أن يغادر في آخر الليل لابد أن يغادر قبل منتصف الليل، الحاصل أن الواجب أن يبيت بمنى معظم الليل"[17]. هذا ما تيسر ذكره من الأعمال التي يقوم بها الحاج في يوم العيد، نسأل الله أن ينفعنا بما نقول ونعمل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
يا أبت افعل ما تؤمر
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فإن الله خلقنا لنعبده سبحانه، ووضع هذه الأرض ورفع هذه السماء لذلك، وهو سبحانه الذي ارتضى لنا الدين، وشرع لنا المنهج والطريق فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56)، وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون:115). ومن تمام حكمته سبحانه وتعالى أن يبتلي عباده؛ ليتبين من يعبده حق عبادته، ويستجيب له، ومن يعصيه ويبتعد عن صراطه المستقيم، فالابتلاء فيه تحقيق العبودية لله رب العالمين، وإعداد للمؤمنين للتمكين في الأرض، وبه حصول الأجر، ورفعة الدرجات، والبلاء درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكل، يطلع الإنسان عمليّاً على حقيقة نفسه ليعلم أنه عبد ضعيف لا حول له ولا قوة إلا بربه قال ابن القيم رحمه الله: "فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه: أهَّله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه"([1]). وقد حصل الابتلاء على أشرف الخلق وأكرمهم وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام يأمره الله تعالى أن يذبح فلذة فؤاده إسماعيل عليه السلام بعد أن أصبح غلاماً يافعاً، فما كان من إبراهيم وإسماعيل إلا أن استجابا لأمر الله تعالى، بل وبادر الابن الطائع لله تعالى قائلاً لأبيه: افعل ما تؤمر. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى لنا قصة إبراهيم عليه السلام في كتابه الكريم أكثر من مرة فقال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين} (الصافات:99-110) قال العلامة ابن كثير رحمه الله: "ذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فبشَّره الله تعالى بغلام حليم وهو إسماعيل عليه السلام; لأنه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل أنه أول ولد وبكره. قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}: أي شب وصار يسعى في مصالحه؛ رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا، وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعاً: ((رؤيا الأنبياء وحي)) رواه البخاري (138)، قاله عبيد بن عمير أيضاً. وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر، وقد طعن في السن، بعدما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر، وواد ليس به حسيس ولا أنيس، ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك، وتركهما هناك ثقة بالله، وتوكلاً عليه، فجعل الله لهما فرجاً ومخرجاً، ورزقهما من حيث لا يحتسبان. ثم لما أُمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته، ثم عرض ذلك على ولده؛ ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسراً، ويذبحه قهراً: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، فبادر الغلام الحليم فقال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }، قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، قيل: أسلما أي استسلما لأمر الله، وعزما على ذلك، و{تله للجبين}، أي ألقاه على وجهه، قيل: أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال ذبحه، قاله ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك. قال السدي وغيره: أمر السكين على حلقه فلم تقطع شيئاً، ويقال: جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس، والله أعلم، فعند ذلك نودي من الله عز وجل: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أي: قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك، ومبادرتك إلى أمر ربك، وبذلت ولدك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} أي الاختبار الظاهر البيِّن. ثم قال الله سبحانه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي: وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه، والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض، أعين أقرن، رآه مربوطاً بسمرة في ثبير، وقيل: رعى في الجنة أربعين خريفاً، ... وفى القرآن كفاية عما جرى من الأمر العظيم، والاختبار الباهر، وأنه فدي بذبح عظيم" ([2]). وفي هذه القصة العظيمة عبر وفوائد عظيمة منها: - إحسان الظن بالله سبحانه وتعالى، ويؤخذ هذا من قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي...)) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675). - وجوب بذل الأسباب لأن هذا من تمام التوكل على الله. - وفي قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} دعاء إبراهيم لله سبحانه وحده دونما سواه، فيستفاد منه الاقتداء به وبغيره من الأنبياء، وأن يكون التوجه بالدعاء إلى الله تعالى، وفي الآية دليل على أنّ طلب الذرية لا يكون إلا من الله سبحانه وتعالى، ولهذا طلبها إبراهيم عليه السلام من ربه تعالى، ونعلم بذلك أن الأنبياء بشر لا يضرون ولا ينفعون، فلا ينبغي أن يدعى أحد منهم. - وفيها الاهتمام بصلاح الذرية لأنه قيَّد طلب الذرية بكونها صالحة، والولد الصالح هو الذي ينتفع به، ثم استجاب الله تعالى له، ووهبه غلاماً وصفه بالحلم {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، والحلم يتضمن الصبر، وحسن الخلق، وسعة الصدر، والعفو عمن جنى([3]). - وفي قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} عبّر بالمضارع مع أن الرؤيا قد انتهت، فكأنّ إبراهيم عليه السلام يشاهد الرؤيا وقت كلامه مع ابنه، فهو يستحضر ذلك وهو يخاطبه، وهذا أهون في التزام الأمر. - وقد أعلم إبراهيم عليه السلام ابنه بذلك بأسلوب الاستشارة ليكون أهون عليه، وحتى يكون التسليم لأمر الله منهما، والأجر لهما، والاستشارة من دأب المرسلين، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: من الآية159). - ونأخذ من هذه القصة: معاني الرحمة بالأبناء {يَا بُنَيَّ}، والإحسان إلى الآباء {يَا أَبَتِ}. - ونأخذ من هذه الآيات أيضاً أنّ رؤيا الأنبياء حق ووحي من الله تعالى، ولهذا قال إسماعيل لأبيه عليهما السلام: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} قال ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن: "ورؤيا الأنبياء وحي؛ لأن الأنبياء ليس للشيطان عليهم في التخييل سبيل، ولا للاختلاط عليهم دليل، وإنما قلوبهم صافية، وأفكارهم صقيلة، فما ألقي إليهم، ونفث به الملك في رُوعهم، وضرب المثل له عليهم؛ فهو حق، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: ((وما كنت أظن أنه ينزل فيَّ قرآن يتلى، ولكن رجوت أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها)) رواه البخاري (7500)، مسلم (2770)"([4]). - وما أعظم ذلك الاستسلام لله رب العالمين حين قال إسماعيل عليه السلام لأبيه: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، وهذا هو كمال الاستسلام والانقياد لأمر الله تعالى، فكأن إسماعيل عليه السلام يقول لأبيه افعل كل ما أمرت به، ولو أمرت بشيء غير الذبح فافعل؛ كما لو أُمرتَ بذبحي، وكسر عظامي، وتعليقي .. فافعل، وما أعظم هذا الاستسلام. ثم قال لأبيه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فكل شيء بمشيئة الله، ولا يقع إلا ما أراد الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الكلمة هي سبب التوفيق، حيث بها يتبرأ الإنسان من حوله وقوته، ويجعل الأمر لله وحده، ومن هنا كانت بركتها، ولذلك قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}(الكهف:23-24). - {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} لقد فعل إسماعيل عليه السلام ما وعد به من الصبر، كيف لا وقد قال الله تعالى عنه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} (مريم:54)، وكانت الحكمة من هذا التكليف هي الابتلاء والامتثال قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: "اعلم أن قصة الذبيح هذه تؤيد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمه التكليف: هل هي للامتثال فقط، أو هي مترددة بين الامتثال والابتلاء؟ لأنه بيَّن في هذه الآية الكريمة أن حكمه تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل؛ لأنه لم يرد ذبحه كوناً وقدراً، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرد الابتلاء والاختبار، هل يصمم على امتثال ذلك أو لا كما صرح بذلك في قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فتبين بهذا أنَّ التحقيق أن حكمه التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء"([5]). - ومن الفوائد في هذه القصة: أن على الإنسان أن يتخلص من الصوارف التي تصرفه عن طاعة الله تعالى، فإن معنى قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي أكبّه على وجهه؛ لئلا يراه فيرق قلبه، ويُصرف عن طاعة مولاه، وهجرته من قبل هي من الأدلة على ذلك. - ومن الفوائد أيضاً: أن الأنبياء أشد الناس بلاء قال عليه الصلاة والسلام: ((إن من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))([6]). - ومن العبر والفوائد في هذه قصة الذبح أن الفرج يأتي بعد الشدة {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الشرح:5-6)، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}(الطلاق:من الآية2)، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} (الطلاق:من الآية4). نسأل الله أن ينفعنا بكتابه، ويصلي ويسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. |
أعمال الحاج في منى
ما شرعه الله تعالى على عباده من الأعمال والطاعات هو مما يرفع العبد عند ربه، وينال به خيري الدنيا والآخرة، ومن تلك الأعمال أعمال الحج التي جعل الله تعالى فيها المنافع لكل حاج عمل ما شرع عمله في حجه يقول تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}(سورة الحج:27). ومن أعمال الحج ما يفعله الحاج في منى؛ إذ فيها يعيش الحاج لحظات عامرات لا تمحى من الذكريات، ولا تطمسها تفاني الليالي والأوقات، وفيها أعمال للحجيج لا تتم إلا على أرضها، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1.أعمال يوم التروية. 2.وأعمال يوم العاشر من ذي الحجة. 3.وأعمال أيام التشريق. وتفصيل هذه الأعمال كالتالي[1]: أولاً: أعمال يوم التروية: اليوم الثامن من ذي الحجة: 1- قبل نية الدخول في النسك ولبس الإحرام يستحب للمتمتع أن يغتسل ويتنظف، ويقص أظافره، ويحف شاربه، ويلبس الإزار والرداء الأبيضين، أما المرأة فتلبس ما شاءت غير القفازين والنقاب (البرقع)، وأما القارن والمفرد فيكون عليهما الإحرام من قبل، فلا يفعلان كما يفعل المتمتع من قص وغيره. 2- يسن للمحل (المتمتع) الإحرام بالحج قبل الزوال. 3- ينوي الإحرام بالحج ويقول: "لبيك حجاً"، وإن كان خائفاً من عائق يمنعه من إكمال حجه اشترط فقال: "وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني" وإن لم يكن خائفاً لم يشترط. 4- الخروج إلى منى يوم التروية، والمبيت بها ليلة التاسع، وعدم الخروج منها إلا بعد طلوع الشمس وصلاة خمس صلوات بها. 5- الإكثار من التلبية وصفتها أن يقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" إلى أن يرمى جمرة العقبة يوم النحر. 6- قصر الصلاة الرباعية إلى اثنتين كالظهر والعصر والعشاء. 7- المحافظة على صلاة الجماعة مع الإمام وألا تفوتك تكبيرة الإحرام. 9- الحرص على صلاة الوتر سواء آخر الليل وهو أفضل، أو قبل النوم، أو بعد صلاة العشاء. 10- المبيت في منى تلك الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة، وهو مسنون. ثانياً: أعمال يوم النحر: اليوم العاشر من ذي الحجة: 1- الدفع من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس بسكينة وخشوع. 2- يستحب الإسراع عند المرور بوادي محسر إن تيسر ذلك. 3- الانشغال بالتلبية حتى يصل جمرة العقبة ثم يقطع، ويجعل منى عن يمينه، والبيت عن يساره، ويرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات، يرفع يده عند كل حصاة ويكبر، ويحرص الحاج على ضرب الشاخص، ويجزئه إذا وقع الحصى في الحوض. 4- ذبح الهدي، ويستحب أن يباشره الحاج إن تيسر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول عند ذبحه: ((بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك))[2]. 5- يحلق شعر رأسه، أو يقصر، والحلق أفضل، ولا يكفي تقصير بعض شعر الرأس بل لا بد من تقصيره كله كالحلق، والمرأة تقصر من كل ظفيرة قدر أُنملة. 6- بعد رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير يباح للمحرم كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النكاح، ويسمى هذا التحلل الأول. 7- يسن له بعد هذا التحلل التنظف والتطيب، والتوجه إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، ويسمى هذا الطواف (طواف الزيارة)، وهو ركن لا يتم الحج إلا به، وبعده يحل له كل شيء حتى النساء. 8- السعي بين الصفا والمروة للمتمتع والمفرد والقارن الذي لم يسع مع طواف القدوم. 9- إن قدَّم النحر على الرمي، أو الطواف عليهما؛ أو الحلق أجزأه ذلك، فيفعل الحاج الأرفق به، وإن كان الأفضل الرمي، ثم الذبح، ثم الحلق، ثم الطواف؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يُسأل يوم النحر بمنى فيقول: ((لا حرج))، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: ((اذبح ولا حرج))، قال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: ((لا حرج)) رواه البخاري (1620). 10- ويبيت في منى من تلك الليلة حتى اليوم الثالث عشر، وإن عجل فيبيت حتى صباح الثاني عشر. ثالثاً: أعمال أيام التشريق: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر: 1- رمي الجمرات الثلاث، ويبدأ بالصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة الكبرى، يرمي كل جمرة بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة يرميها في اليومين الحادي عشر والثاني عشر (إن تعجل)، وفي اليوم الثالث عشر (إن تأخر). 2- يسن له بعد الرمي أن يتنحى يميناً، ويستقبل القبلة، ثم يدعو طويلاً رافعاً يديه، يفعل ذلك عند الصغرى والوسطى، أما العقبة الكبرى فلا يفعل ذلك عندها. 3- المبيت بمنى وهو واجب. 4- طواف الوداع وهو آخر أعمال الحج، فإذا انتهى الحاج من حجه، وقضى حوائجه بمكة، وعزم على الرحيل؛ فعليه أن يودع البيت بالطواف لقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض" رواه البخاري (1636)، ومسلم (2351) بلفظه. 5- استغلال هذه الأيام بطاعة الله من قراءة القرآن وذكر وتكبير وغيرها، فإذا قضى الحاج مناسكه فيستحب له أن يذكر الله، ويكثر من ذكره استجابة لما أرشدنا إليه ربنا عز وجل في قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}(سورة البقرة:200). والله أعلم، وصلى اللهم على محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. |
(يوم التروية (الثامن ذي الحجة
يوم التروية الثامن من ذي الحجة، هو أحد أيام العشر الفاضلة، التي أقسم بها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم إذ قال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}(سورة الفجر:1-2)، والعمل فيها أفضل من العمل في غيرها، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما العمل في أيام أفضل منها في هذه)) (يعني عشر ذي الحجة)، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ((ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه، وماله فلم يرجع بشيء)) رواه البخاري برقم (916). وفي هذا اليوم يبدأ الحجاج بالاستعداد لهذا النسك العظيم ، ويتأهبون فيه للوقوف غداً بين يدي الله الكريم، في يوم المغفرة والمباهاة والعتق من النيران. معنى يوم التروية معنى التروية ذكرها صاحب المصباح المنير، قال: "ويوم التروية ثامن ذي الحجة من ذلك؛ لأن الماء كان قليلاً بمنى فكانوا يرتوون من الماء لمِا بعد، وروى البعير الماء يرويه، من باب: رمى حمله فهو راوية، الهاء فيه للمبالغة، ثم أطلقت الراوية على كل دابة يستقى الماء عليها، ومنه يقال: رويت الحديث إذا حملته، ونقلته، ويُعدَّى بالتضعيف، فيقال: رويت زيداً الحديث، ويبنى للمفعول فيقال: روينا الحديث"[1]، فهذا سبب لتسميته بيوم التروية وهو قوي، وهناك سبب آخر يذكره بعضهم، يقول مصطفى السيوطي الرحيباني الحنبلي رحمه الله: "سمي الثامن بذلك ، لأنهم كانوا يتروون فيه الماء لما بعده، أو لأن إبراهيم أصبح يتروى فيه في أمر الرؤيا"[2]. أعمال يوم التروية: 1- إذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة استحب للذين أحلوا بعد العمرة, وهم المتمتعون أو من فسخوا إحرامهم إلى عمرة من القارنين والمفردين، أن يحرموا بالحج ضحى من مساكنهم, وكذلك من أراد الحج من أهل مكة. أما القارن والمفرد الذين لم يحلوا من إحرامهم فهم باقون على إحرامهم الأول. لقول جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: "فحل الناس كلهم وقصروا, إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي, فلما كان يوم التروية, توجهوا إلى منى , فأهلوا بالحج" مسلم (2137)،قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "فإذا كان يوم التروية أحرم وأهلّ بالحج، فيفعل كما فعل عند الميقات، وإن شاء أحرم من مكة، وإن شاء من خارج مكة هذا هو الصواب، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرموا كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم من البطحاء، والسُّنّة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه، وكذلك المكي يحرم من أهله"[3]، 2- يستحب لمن يريد الإحرام الاغتسال, والتنظف, والتطيب, وأن يفعل ما فعل عند إحرامه من الميقات. 3- ينوي الحج بقلبه ويلبي قائلاً: لبيك حجاً، وإن كان خائفاً من عائق يمنعه من إتمام حجه اشترط، فقال: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، وإذا كان حاجاً عن غيره نوى بقلبه الحج عن غيره، ثم قال: لبيك حجاً عن فلان, أو عن فلانة, أو عن أم فلان إن كانت أنثى, ثم يستمر في التلبية " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك "، وإن زاد: لبيك إله الحق لبيك، فحسن لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. 4- يستحب للحجاج التوجه إلى منى ضحى اليوم الثامن قبل الزوال والإكثار من التلبية. 5- يصلي الحاج بمنى الظهر, والعصر, والمغرب, والعشاء, وفجر التاسع قصراً بلا جمع، إلا المغرب والفجر فلا يقصران؛ لقول جابر رضي الله عنه: (وركب النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى, فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر, ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس) رواه مسلم (2137). ويقصر الحجاج من أهل مكة الصلاة بمنى، فلا فرق بينهم وبين غيرهم من الحجاج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس من أهل مكة وغيرهم قصراً ولم يأمرهم بالإتمام, ولو كان واجبا عليهم لبينه لهم. 6- يستحب للحاج أن يبيت بمنى ليلة عرفة; لفعله صلى الله عليه وسلم. فإذا صلى فجر اليوم التاسع مكث حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت سار من منى إلى عرفات ملبياً أو مكبراً; لقول أنس رضي الله عنه: "كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه" رواه البخاري (1549) بلفظه، ومسلم (2254)، وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك, لكن الأفضل لزوم التلبية; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لازمها. 7- ماتم ذكره من أعمال اليوم الثامن يسن للحاج فعلها تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وليست واجبة ، فلو قدم إلى عرفة يوم التاسع مباشرة جاز ، لكن لابد أن يقف بعرفة محرماً ، سواء أحرم يوم الثامن أو قبله أو بعده. قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:"ثم يخرج إلى منى من كان بمكة محرماً يوم التروية, والأفضل أن يكون خروجه قبل الزوال, فيصلي بها الظهر وبقية الأوقات إلى الفجر, ويبيت ليلة التاسع, لقول جابر رضي الله عنه: (وركب النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى, فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر, ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس) رواه مسلم (2137), وليس ذلك واجباً بل سنة, وكذلك الإحرام يوم التروية ليس واجباً, فلو أحرم بالحج قبله أو بعده, جاز ذلك، وهذا المبيت بمنى ليلة التاسع, وأداء الصلوات الخمس فيها سنة, وليس بواجب"[4]. اللهم اهدنا وسددنا، وألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، و الحمد لله رب العالمين |
أيام أكل وشرب وذكر لله
اهتم ديننا الإسلامي ببعض الأيام فأفردها عن غيرها بخصائص معينة تميزها، ومن هذه الأيام أيام التشريق. وأيام التشريق هي الأيام الثلاثة التالية ليوم النحر، وهي التي ذكرها الله تعالى بقوله: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} (البقرة:203) كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن رجب رحمه الله: "وأما الأيام المعدودات فالجمهور على أنها أيام التشريق، وروي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما، واستدل ابن عمر بقوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:203) وإنما يكون التعجيل في أيام التشريق، قال الإمام أحمد: ما أحسن ما قال ابن عمر"[1]. وهذه الأيام واقعة بعد العشر الفاضلة فتشرف بالمجاورة أيضاً، وتشترك معها بوقوع بعض أعمال الحج فيها، ويدخل فيها يوم النحر، فيعظم شرفها وفضلها بذلك كله، كما أن ثانيها هو يوم القرِّ وهو الحادي عشر أفضل الأيام بعد يوم النحر، وهذه الأيام الأربعة هي أيام نحر الهدي والأضاحي على الراجح من أقوال أهل العلم؛ تعظيماً لله تعالى، وهي أيام عيد للمسلمين لحديث: ((يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب))[2] لهذا يحرَّم صيامها إلا للحاج الذي لم يجد الهدي. وأيام التشريق هي أيام عبادة وذكر وفرح وذكر لله تعالى بنعم الله العظيمة فعن نبيشة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((إنا كنا نهيناكم عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث لكي تسعكم فقد جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا، ألا إن هذه الأيام أيام أكل وشرب، وذكر الله عز وجل))[3]. آداب ينبغي مراعاتها في هذه الأيام: - يحرم صوم هذه الأيام إلا للحاج المتمتع والقارن لمن لم يجد الهدي وذلك لحديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي" البخاري (1998). - الإكثار من ذكر الله تعالى قال الخطابي: "حكمة التكبير في هذه الأيام أن الجاهلية كانوا يذبحون لطواغيتهم فيها، فشُرع التكبير فيها إشارة إلى تخصيص الذبح لله، وعلى اسمه عز وجل"[4]، وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً، وكان ابن عمر رضي الله عنه يكبر بمنى تلك الأيام خلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعاً[5]. - إظهار الفرح والسرور والتوسعة على الأهل بما ليس فيه حرمة أو شبهة. وقت التكبير وصيغته: يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد ذكر جملة من الآثار في التكبير: "وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات، ومنهم من خصَّ ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤداة دون المقضية، وبالمقيم دون المسافر، وبساكن المصر دون القرية، وللعلماء اختلاف أيضاً في ابتدائه وانتهائه فقيل: من صبح يوم عرفة، وقيل من ظهره، وقيل من عصره، وقيل من صبح يوم النحر، وقيل من ظهره، وقيل في الانتهاء إلى ظهر يوم النحر، وقيل إلى عصره، وقيل إلى ظهر ثانيه، وقيل إلى صبح آخر أيام التشريق، وقيل إلى ظهره، وقيل إلى عصره، قال: وقد رواه البيهقي عن أصحاب ابن مسعود، ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى، والله أعلم. وأما صيغة التكبير: فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال: كبروا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً"، ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بين أبي ليلى أخرجه جعفر الفريابي في كتاب العيدين من طريق يزيد بن أبي زياد عنهم، وهو قول الشافعي، وزاد: ولله الحمد، وقيل يكبر ثلاثاً، ويزيد: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وقيل يكبر اثنتين بعدهما: "لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد" جاء ذلك عن عمر، وعن ابن مسعود نحوه، وبه قال أحمد وإسحاق"[6]. نسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا لطاعته، ويجنبنا معاصيه، والحمد لله رب العالمين. |
الهدي فضله وأحكامه
الهدي ذلكم النسك العظيم الذي يؤديه حجاج بيت الله الحرام متقربين به إلى ربهم جل جلاله؛ مقتفين فيه أثر رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم, متوجين نسكهم هذا وسائر طاعاتهم بالإخلاص لله سبحانه، فنقول وبالله التوفيق: الهدي: هو ما يُهدى من النعم إلى الحرم تقرباً إلى الله عز وجل، قال عمر رضي الله عنه: "يا أيها الناس, حجُّوا وأهدوا فإن الله يحب الهدي" (مصنف عبد الرزاق-8164)، وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل، وكان هديه تطوعاًَ. الأفضل فيه: أجمع العلماء على أن الهدي لا يكون إلا من النعم، واتفقوا على أن الأفضل الإبل، ثم البقر، ثم الغنم على هذا الترتيب؛ لأن الإبل أنفع للفقراء لعِظَمِهَا, والبقر أنفع من الشاة كذلك، واختلفوا في الأفضل للشخص الواحد: هل يهدي سُبْعَ بدنة، أو سُبْعَ بقرة، أو يهدي شاة؟ والظاهر أن الاعتبار بما هو أنفع للفقراء, والله أعلم. أقل ما يجزئ في الهدي: للمرء أن يُهدي للحرم ما يشاء من النعم, وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل, وكان هديه هدي تطوع، وأقل ما يجزئ عن الواحد شاة، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة؛ فإن البقرة أو البدنة تجزئ عن سبعة فعن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: "حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحَرْنَا الْبَعِيرَ عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ" (رواه مسلم برقم 2324). أقسام الهدي: ينقسم الهدي إلى مستحب وواجب: فالهدي المستحب: للحاج المفرد، والمعتمر المفرد. والهدي الواجب يلزم الآتي: 1 الحاج القارن. 2 الحاج المتمتع. 3 ومن ترك واجباً من واجبات الحج كرمي الجمار، والإحرام من الميقات, والجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، والمبيت بالمزدلفة، أو منى، أو ترك طواف الوداع. 4 من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام غير الوطء كالتطيب والحلق. 5 وصاحب الجناية في الحرم كالمتعرض لصيد، أو قاطع شجرة. شروط الهدي: يشترط في الهدي الشروط الآتية: 1 أن يكون ثنياً إذا كان من الإبل أو البقر أو المعز، أما الضأن فإنه يجزئ منه الجذع (وهو ما له ستة أشهر) فما فوقه وكان سميناً، والثني من الإبل ماله خمس سنين، ومن البقر ما له سنتان، ومن المعز ما له سنة تامة، فهذه يجزئ منها الثني فما فوقه. 2 أن يكون سليماً، فلا تجزئ فيه العوراء، ولا العرجاء، ولا الجرباء، ولا العجفاء. إشعار الهدي وتقليده: الإشعار: هو أن يشق أحد جنبي سنام البدنة أو البقرة، إن كان لها سنام حتى يسيل دمها، ويجعل ذلك علامة لكونها هدياً فلا يتعرض لها، والتقليد: هو أن يجعل في عنق الهدي قطعة جلد ونحوها ليعرف بها أنه هدي، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قلد الهدي، ولذا استحب العلماء التقليد، وأما الإشعار فمختلف فيه، والحكمة فيهما تعظيم شعائر الله، وإظهارها، وإعلام الناس بأنها قرابين تساق إلى بيته، وتذبح له، ويتقرب بها إليه. ركوب الهدى: يجوز ركوب البدن، والانتفاع بها لما ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ((ارْكَبْهَا)) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ! قَالَ: ((ارْكَبْهَا وَيْلَكَ)) فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ. (رواه البخاري برقم1604، ومسلم برقم 1322)، وهذا مذهب أحمد، وإسحاق، ومشهور مذهب مالك، وقال الشافعي: يركبها إذا اضطر إليها. وقت الذبح: اختلف العلماء في وقت ذبح الهدي, فعند الشافعي أن وقت ذبحه يوم النحر وأيام التشريق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ)) (رواه أحمد برقم 16751وصححه الألباني)، فإن فات وقته ذبَح الهدي الواجب قضاء، وهذا رأي الأحناف بالنسبة لهدي التمتع والقران, وأما دم النذر والكفارات والتطوع فيذبح في أي وقت، وعند مالك وأحمد وقت ذبح الهدي سواء أكان ذبح الهدي واجباً أم تطوعاً هو أيام النحر, وقيل غير ذلك. مكان الذبح: الهدي سواء أكان واجباً أم تطوعاً لا يذبح إلا في الحرم, وللمهدي أن يذبح في أي موضع منه، والسنَّة النحر بمنى لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بها، وحيث نحر من الحرم أجزأه لحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ)) (رواه أبو داود1939، وصححه الألباني). والأَوْلى بالنسبة للحاج أن يذبح بمنى، وبالنسبة للمعتمر أن يذبح عند المروة؛ لأنها موضع تحلل كل منهما. ويستحب أن تنحر الإبل وهي قائمة، معقولة اليد اليسرى لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما البقر والغنم فيستحب ذبحها مضطجعة, ويستحب أن يذبحها بنفسه إن كان يحسن الذبح، وإلا فيندب له أن يشهده إذا وكل غيره. وإذا نحر الهدي فرَّقه على المساكين من أهل الحرم، وإن قسمها فهو أحسن وأفضل؛ لأنه بقسمتها يكون على يقين من إيصالها إلى مستحقها، ويكفي المساكين مؤنة النهب والزحام عليها. ولا يعطي الجازر بأجرته شيئاً منها؛ لما روي عن علي رضي الله عنه قال: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا، وَأَجِلَّتِهَا، وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا قَالَ: ((نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا))" (رواه مسلم 2320)(6/470)، ولا يجوز بيع شيء منها، وإن كان الجازر فقيراً فأعطاه لفقره سوى ما يعطيه أجره جاز؛ لأنه مستحق الأخذ منها لفقره لا لأجره فجاز كغيره، ويقسم جلودها وجلالها كما جاء في الخبر؛ لأنه ساقها لله على تلك الصفة؛ فلا يأخذ شيئاً مما جعله لله. الأكل من لحوم الهدي: أمر الله بالأكل من لحوم الهدي فقال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (سورة الحج:27)، وهذا الأمر يتناول بظاهره هدي الواجب، وهدي التطوع. وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك: فذهب أبو حنيفة وأحمد: إلى جواز الأكل من هدي المتعة، وهدي القران، وهدي التطوع، ولا يأكل مما سواها. وقال مالك: يأكل من الهدي الذي ساقه لفساد حجه، وفوات الحج, ومن هدي المتمتع، ومن الهدي كله، إلا فدية الأذى، وجزاء الصيد, وما نذره للمساكين، وهدي التطوع إذا عطب قبل محله. وعند الشافعي: لا يجوز الأكل من الهدي الواجب مثل الدم الواجب في جزاء الصيد، وإفساد الحج، وهدي التمتع والقران، وكذلك ما كان نذراً أوجبه على نفسه، أما ما كان تطوعاً فله أن يأكل منه، ويهدي، ويتصدق. مقدار ما يأكله من الهدي: للمهدي أن يأكل من هديه الذي يباح له الأكل منه بمقدار ما يشاء أن يأكله بلا تحديد، وله كذلك أن يهدي أو يتصدق بما يراه, وقيل: يأكل النصف، ويتصدق بالنصف، وقيل: يقسمه أثلاثاً، فيأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث[1]. والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه. |
الأضحية فضلها وأحكامها
الأضحية نعمة من نعم الله تبارك وتعالى على المسلمين, شرعها لأهل الأمصار الذين لم يُقدر لهم أن يحجوا ويهدوا إلى البيت الحرام ليشاركوا إخوانهم الحجيج في النسك، حيث يذبح الحُجاج الهدي، ويذبح إخوانهم الذين لم يتمكنوا من الحج الأضاحي. ولأجل ذلك فقد شرع لهم (أصحاب الأضاحي) أيضاً إذا دخلت العشر الأول من ذي الحجة ألا يأخذوا من شعورهم ولا أظفارهم ولا أبشارهم (أي: جلودهم) شيئاً كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً)) رواه مسلم (1977)، وهذا الخطاب موجه من النبي صلى الله عليه وسلم لمن يضحي، وليس لمن ضُحي عنه. تعريف الأضحية لغة واصطلاحاً: والأضحية لغة: فيها أربع لغات كما نقل الجوهري عن الأصمعي قوله: وفيها أربع لغات، إضْحِيَّةٌ. وأُضْحِيَّةٌ والجمع أضاحي. وضَحِيَّةٌ على فعيلة والجمع ضحايا. وأضْحَاةٌ والجمع أضحىً كما يقال أرطاةٌ وأرْطىً[1]. وأما في الاصطلاح: فإنها ما يذبح من النعم تقرباً إلى الله تعالى من يوم العيد إلى آخر أيام التشريق[2]. مشروعية الأضحية: والأصل في مشروعيتها الكتاب, والسنة, والإجماع: فمن الكتاب قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (سورة الكوثر:2) قال القرطبي رحمه الله: " قال قتادة وعطاء وعكرمة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} صلاة العيد يوم النحر, {وَانْحَرْ} نُسُكك, وقال أنس رضي الله عنه:كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر ثم يصلي، فأُمِرَ أن يصلي ثم ينحر, وقال سعيد بن جبير أيضاً: صل لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع (أي مزدلفة)، وانحر البدن بمنى"[3]. وقال ابن كثير رحمه الله: "قال ابن عباس وعطاء، ومجاهد وعكرمة، والحسن: يعني بذلك نحر البدن ونحوها, وكذا قال قتادة ومحمد بن كعب القرظي، والضحاك والربيع، وعطاء الخراساني والحكم، وسعيد بن أبي خالد وغير واحد من السلف"[4]. ثانياً: من السنة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما، يسمي ويكبر، فذبحهما بيده" رواه البخاري (5238)؛ ومسلم (1966). ثالثاً: الإجماع: قال ابن قدامه المقدسي رحمه الله: "وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية"[5]. فضلها: لم يرد نص صحيح يدل على فضل الأضحية، وكل ما ورد فيها من أحاديث فهو ضعيف أو موضوع كما قال المباركفوري رحمه الله: "تنبيه: قال ابن العربي في شرح الترمذي: ليس في فضل الأضحية حديث صحيح انتهى, قلت: الأمر كما قال ابن العربي"[6]. ولكن يمكن القول في فضلها بأنها سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فعلها العبد نال الأجر من الله تبارك وتعالى لعمله بالسنة قال ابن قدامه المقدسي رحمه الله: " أكثر أهل العلم يرون الأضحية سنة مؤكدة غير واجبة روي ذلك عن أبي بكر وعمر، وبلال وأبي مسعود البدري رضي الله عنهم، وبه قال سويد بن عفلة وسعيد بن المسيب، وعلقمة والأسود، وعطاء والشافعي[7], وإسحاق وأبو ثور, وابن المنذر. وقال ربيعة ومالك[8], والثوري والأوزاعي، والليث وأبو حنيفة[9]؛ هي واجبة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا))[10], وعن مخنف بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أيها الناس: إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة))[11]"[12]. وتكون الأضحية من بهيمة الأنعام وهي: الإبل والبقر والغنم ضأنها ومعزها لقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (سورة الحج:34)، وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما[13]، وتجزئ الإبل عن سبعة، وكذلك البقرة, أما الضأن والغنم فتجزئ عن واحد وأهل بيته. شروط الأضحية: - أن تبلغ السن المحددة شرعاً: وذلك بأن تكون جذعة من الضأن, أو ثنية من غيره لحديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) رواه مسلم (1963), والمسنة: الثنية فما فوقها, والجذعة: ما دون ذلك, فالثني من الإبل: ما له خمس سنين, والثني من البقر: ما له سنتان, والثني من الغنم ما له سنة, والجذع: ما له نصف سنة; فلا تصح التضحية بما دون الثني من الإبل والبقر والمعز، ولا بما دون الجذع من الضأن. - أن تكون خالية من العيوب المانعة من الإجزاء: والعيوب المانعة هي أربعة كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي أقصر من يده فقال: ((أربع لا يجزن: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والكسيرة التي لا تنقى))[14]، وقد ذكر بعض أهل العلم عيوباً أخرى كالعمياء ومقطوعة الرجل. - أن تكون ملكاً للمضحي أو مأذوناً له فيها من قبل الشرع أو من قبل المالك; فلا تصح بما لا يملكه كالمغصوب والمسروق والمأخوذ بدعوى باطلة ونحوه, لأنه لا يجوز التقرب إلى الله بمعصيته. ويستحب الإحسان عند ذبح الأضحية وذلك بإحداد الشفرة، وسرعة ذبحها بقطع الودجين والحلقوم، وأضجاعها على شقها الأيسر، وأن تكون حين الذبح إلى جهة القبلة، أما إن كانت من الإبل فتكون على ثلاث قوائم معقولة فعن عائشة رضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم (2594)، وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء: فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته)) رواه مسلم (1955). نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا طاعاتنا، وأن يوفقنا لرضاه، والحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. |
الساعة الآن 03:02 PM. |
IPTEGY.COM® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Powered By iptegy.com.
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010